هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، ولهذا قال: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } إلى آخرها. وقوله: { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أي: يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا } [لقمان: 21] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: { { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [النور: 51] الآية. ثم قال تعالى في ذم المنافقين: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك؟ { ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي: يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك، إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة، لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة؛ كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله:
{ { فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ } ـ إلى قوله ـ { فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ نَـٰدِمِينَ } [المائدة: 52]. وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ـ إلى قوله ـ { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }. ثم قال تعالى: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك؛ فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم { وَعِظْهُمْ } أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، { وَقُل لَّهُمْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.