التفاسير

< >
عرض

بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
١
-الفاتحة

تأويلات أهل السنة

التَّسْمِيةُ هِيَ آيةٌ مِنَ الْقُرْآن، وَلَيْسَتْ مِنْ فاتِحةِ الكِتاب.
دليل جعلها آية: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيِّ بن كعب:
"لأُعلِّمنَّكَ آيةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي إِلاَّ عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاودَ فأَخْرَجَ إِحْدَى قَدَمَيْهِ، ثمَّ قَالَ له: بأَيِّ آيةٍ تفتتح بها القرآن؟ قال: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. فَقَالَ: هِيَ هِيَ" .
ففي هذا أنها آية من القرآن، وأنها لو كانت من السور لكان يعلمه نَيِّفاً ومائةَ آيةٍ لا آيةٌ واحدةً.
ولو كانت منها أيضاً؛ لكان لا يجعلها مفتاح القرآن، بل يجعلها من السور.
ثم الظاهر أن من لم يتكلف تفسيرها عند ابتداء السورة ثبت أَنها ليست منها.
وكذلك تركُ الأُمةِ الجهرَ بها، على العلم بأنه لا يجوز أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجهر بها ثم يخفي ذلك على من معه، وأن يكونوا غفلوا ثم يضيعون سُنَّةً بلا نفع يحصل لهم، حتى توارثت الأُمةُ تركَها فيما يحتمل أن يكون الجهر سنة ثم يخفى، فيكون في فعل الناس دليل واضح أنها ليست من السور.
ودليل آخر على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله أنه قال:
"قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَينِ، فإِذَا قَالَ العَبْدُ: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إلى قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }. فقال: هذا لي" . وهي ثلاث آيات.
وقال بعد قوله: { ٱهْدِنَا } إلى آخرها:
"هَذَا لِعَبْدِي" ، ثبت أنها ثلاثُ آيات؛ لتستويَ القسمة.
ثم قال في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }:
"هذا بيني وبين عبدي نصفين" .
فثبت أنها آية واحدة؛ فصارت بغير التسمية سبعاً. وذلك قول الجميع: إنها سبع آيات مع ما لم يذكر في خبر القسمة؛ فثبت أنها دونها سبع آيات.
وقد روى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال:
"صَلَّيْتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمان - رضي الله عنهم - فَلمْ يكونوا يَجْهرُونَ بـ بسم الله الرحمن الرحيم" .
وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - وعبد الله بن عمر وجماعة، وهو الأَمر المعروف في الأُمة، مع ما جاءَ في قصة السحر: أن العُقَد كانت إحدى عشرة، وقرأَ عليها المعوذتين دون التسمية؛ فكذا غيرها من السور مع ما إذا جعلت مفتاحاً كانت كالتعوذ، والله الموفق.
والأصل عندنا أن المعنى الذي تَضَمنُه فاتحةُ القرآن فرض على جميع البشر؛ إذ فيه الحمد لله والوصف له بالمجد، والتوحيد له، والاستعانة به، وطلب الهداية، وذلك كله يَلزَم كافَّةَ العقلاء من البشر، إذ فيه معرفة الصانع على ما هو معروف، والحمدُ له على ما يستحقه، إذ هو المبتدئ بنعمه على جميع خلقه، وإليه فقر كلِّ عبدٍ، وحاجةُ كلِّ محتاج، فصارت لنفسها - بما جمعت الخصال التي بَيَّنَّا - فريضةً على عباد الله.
ثم ليست هي في حق الصلاة فريضة، وذلك نحو التسبيحات بما فيها من تَنزيه الله.
والتكبيرات بما فيها من تعظيمه فريضة لنفسها؛ إذ ليس لأَحد ألا ينزه ربه، ولا يعظمه من غير أن يوجب ذلك فرضيتها في حق الصلاة، وفي حق كل مجعولة هي فيه، لا من طريق توضيح الفرضية من غير طريق الذي ذكرت.
ثم ليست هي بفريضة في حق القراءة في الصلاة؛ لوجوه:
أحدها: أَن فرضية القراءَة عرفنا بقوله:
{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل: 20] وفيها الدلالة من وجهين:
أحدهما: أنه قد يكون غيرها أَيسرَ.
والثاني: أن فرضيَّة القراءَة في هذه الآية من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير، ولو لم يكن فريضة لم يكن علينا في التخفيف منَّةٌ إذاً بالترك.
ثم لا نخير في فاتحة القرآن، والآية التي بها عرفنا الفرضية فيما تخير ما يختار من الأَيسر، ثبت أنها رجعت إلى غيرها، وبالله التوفيق.
والثاني: أن نبيَّ الله أخبر عن الله: أنه جعل بها في حق الثناء، وهو ما ذكر في خبر القسمة فصارت تقرأ بذلك الحق، فلم يخلص لها حق القراءَة، بل أَلحق بها حق الدعاء والثناءِ، وليس ذلك من فرائض الصلاة، وبالله التوفيق.
والثالث: ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:
"أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَا ليلة بقوله: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية. وبه كان يقوم، وبه كان يركع، وبه يسجد، وبه يقعد" . فثبت أنه لا يتعين قراءَتها في الصلاة مع ما أَيَّده الخبر الذي فيه "أَنِ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ؛ إذ قال له وقت التعليم: "اقْرَأْ مَا تيسَّرَ عَلَيْكَ" فثبت أَن المفروض ذلك.
وأيضاً روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال:
"لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" .
ثم روي عنه بيان محلها: "إِنَّ كُلَّ صَلاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فيها بِفَاتِحَةِ الكتابِ فهِيَ خِدَاجٌ، نُقْصَانٌ، غَيْرُ تَمَامٍ" .
والفاسدُ لا يوصف بالنقصان، وإنما الموصوف بمثله ما جاز مع النقصان. وبالله التوفيق.
ثم خص فاتحة القرآن بالتأْمين بما سُمِّي بالذي ذكَره خبرُ القسمة.
وغير الفاتحة وإن كان فيه الدعاءُ، فإنه لم يخص بهذا الاسم، لذلك لم يجهر به، فالسبيل فيه ما ذكرنا في القسمة، ما كان هو أخلص بمعنى الدعاء منها.
ثم السُّنَّة في جميع الدعوات المخافَتةُ.
والأَصل: أنَّ كل ذِكر يشترك فيه الإمام والقوم فَسُنتُه المخافتة إلا لحاجة الإعلام، وهذا يعلم من قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فيزول معناه.
وسبيل مثله المخافتة مع ما جاءَ به مرفوعاً ومتوارثاً.
وخبرُ الجهر يحتمل: السبق، كما كان يُسْمِعُهُم في صلاة النهار أحياناً. ويحتمل: الإعلام، أنه كان يقرأُ به. وبالله التوفيق.
ثم جمعت هذه خصالاً من الخير، ثم كل خصلة منها تجمع جميع خصال الخير.
منها: أَن في الحرف الأَول من قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } شكراً لجميع النعم، وتوجيهاً لها إلى الله لا شريك له، ومَدْحاً له بأَعلى ما يحتمل المدح، وهو ما ذكرنا من عموم نعمه وآلائه جميعَ بريَّته.
ثم فيه الإقرار بوحدانيته في إنشاءِ البرِيَّة كلها، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وكل واحد منها يجمع خصال خير الدارين، ويوجب القائل به - عن صدق القلب - درك الدارين.
ثم الوصف لله - عز وجل - بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأَحد من معناهما حقيقة، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق نحو "الله" و"الرحمن".
ثم الوصف بالرحمة التي بها نجاة كل ناج، وسعادة كل سعيد، وبها يتقي المهالكَ كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التي بها تعاطف بينهم وتراحمهم.
ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } مع الوصف له بالمجد، وحسن الثناء عليه.
ثم التوحيد، وما يلزم العباد من إخلاص العبادة له، والصدق فيها، مع جعل كل رفعة وشرف منالاً به عز وجل.
ثم رفع جميع الحوائج إليه، والاستعانة به على قضائها، والظفر بها على طمأْنينة القلب وسكونه، إذ لا خيبة عند معونته، ولا زيغ عند عصمته.
ثم الاستهداء إلى ما يرضيه، والعصمة عما يغويه في حادث الوقت، على العلم بأنه لا ضلال لأَحد مع هدايته في التحقيق.
والرجاء والخوف من الله لا من غيره.
وعلى ذلك جميع معاملات العباد، ومكاسبهم على الرجاء من الله تعالى أَن يكون جعل ذلك سبباً به يصل إلى مقصوده، ويظفر بمراده. ولا قوة إلا بالله.